## "بابا والقذافي": رحلة سينمائية في ذاكرة ليبيا المفقودة وهوية جيل ضائع
**مقدمة:**
في سابقة هي الأولى من نوعها في تاريخ السينماالليبية، يشارك الفيلم الوثائقي "بابا والقذافي" للمخرجة جيهان الكيخيا
في مهرجان البندقية السينمائي المرموق، مقدماً للعالم نافذة فريدة على قصة شخصية
وعائلية تتشابك خيوطها مع تاريخ ليبيا المضطرب تحت حكم معمر القذافي. هذا الفيلم
ليس مجرد سيرة ذاتية، بل هو محاولة جريئة لاستعادة الذاكرة المبتورة، وفهم تيمة
الغياب التي طالت الأفراد والوطن على حد سواء، ليصبح بذلك صرخة فنية تبحث عن الهوية
الليبية المفقودة في دهاليز الاستبداد والفوضى.
![]() |
## "بابا والقذافي": رحلة سينمائية في ذاكرة ليبيا المفقودة وهوية جيل ضائع |
**غياب الأب صدمة الطفولة وأشباح السوريالية:**
تستهل جيهان الكيخيا فيلمها بسرد مؤلم لتجربتها
الشخصية مع الفقدان. في سن السادسة، تلقت جيهان خبر غياب والدها، منصور الكيخيا،
السياسي والحقوقي الليبي البارز، على يد أجهزة نظام القذافي. ورغم أن معرفة
الحقيقة خففت من صدمة الفقدان، إلا أنها تركت جيهان تعيش شعوراً دائماً
بالسوريالية، شعوراً بالواقع المبتور والذاكرة المجتزأة. هذا الشعور، الذي تعمق
بفعل مخاوفها والقيود الثقافية في المجتمع الليبي، دفعها لخوض رحلة سينمائية
لاستعادة علاقتها بوالدها وبلادها بطريقتها الخاصة.
**منصور الكيخيا صوت الحرية الذي أخرسه الاستبداد:**
يركز الفيلم على شخصية منصور الكيخيا (1931 - 1993)، الذي يُعد رمزاً للنضال ضد الاستبداد في ليبيا. اشتهر الكيخيا بنزاهة مواقفه وصلابة مبادئه، وكان أحد الأصوات الحرة القليلة التي لم تتقبل الطاغية معمر القذافي.
- خلال مشاركته في مؤتمر لحقوق الإنسان بالقاهرة في مطلع التسعينيات، تعرض للاختطاف على يد
- أجهزة النظام الليبي، ليختفي بعدها في السجون، ويبقى مصيره مجهولاً حتى بعد اندلاع ثورة فبراير
- وسقوط النظام. كان اختطافه واغتياله مثالاً صارخاً لاستهداف الأصوات المعارضة، وهي ظاهرة
- تكررت في العديد من الدول العربية
التي رزحت تحت نير الديكتاتورية لعقود.
**تيمة الغياب جثة في ثلاجة وذاكرة مبتورة:**
"بابا والقذافي" يحفر عميقاً في تيمة
الغياب بكل أبعادها. غياب الأب الذي كان وزيراً ثم منفياً ثم مفقوداً، ثم جثة
وُضعت في ثلاجة لسنوات طويلة، فيما عائلته تبحث عن نقطة نهاية، عن قبر يلملم شتات
الحزن. إن الجسد المدفون هو ضرورة للحزن المشروع والحداد، وهو ما حُرمت منه عائلة
الكيخيا لسنوات طوال، فاستمر الألم في التراكم بلا مخرج.
- تطرح جيهان في فيلمها تساؤلات مؤرقة عن معنى أن تنشأ في ظل أب غائب، وأن تكبر على سؤال
- بلا إجابة: "لماذا اختفى أبي؟ ولماذا صمت كل من صمتوا؟" هذه الأسئلة لا تتعلق فقط بمصير
- منصور الكيخيا، بل تمتد لتشمل مصير ليبيا بأكملها، التي غابت عنها الأصوات الحرة، وحُرمت من
- قادتها
ومفكريها.
**الأم حاملة الذاكرة والصمود**
تأتي الأجوبة في الفيلم من مقابلات مؤثرة مع سياسيين متقاعدين، ومعارف سابقة، لكن الصوت الأهم هو صوت الأم، التي أنهكها الانتظار لكنها لم تتراجع عن البحث عن الحقيقة. الأم هنا ليست مجرد شاهدة، بل هي الحاملة الحقيقية للذاكرة العائلية والوطنية.
- بصوتها المفعم بالألم والصبر، تروي الأم تفاصيل المعاناة
- وتضيء على جوانب من شخصية منصور الكيخيا
- لتساعد جيهان على
بناء صورة أوضح لوالدها الذي لم تتذكره بوضوح.
**القذافي الديكتاتور كخلفية داكنة**
لا يتعامل الفيلم مع القذافي كعدو شخصي بالمعنى
التقليدي، بل كظاهرة اختزلت كل أمراض النظام العربي: الاستبداد، والزبائنية،
والتلاعب بالبسطاء والمحتاجين، وتفكيك المجتمع حتى يتحول الناس إلى مجرد أدوات في
يد السلطة. الديكتاتور ليس محور الفيلم، لكنه الخلفية الداكنة التي تبرز ملامح كل
ما فُقد، كل ما سُرق من أحلام وآمال، وكل ما تشوه من هويات. يعرض الفيلم كيف أن
حكم القذافي لم يدمر الأفراد فحسب، بل سعى إلى محو ذاكرة جماعية وتشويه الهوية
الوطنية.
**صناعة الحضور بالغياب عدالة التوثيق**
تختار جيهان الكيخيا في فيلمها أسلوباً فنياً
فريداً: صناعة الحضور بالغياب، على غرار حال والدها. تتوارى المخرجة عادةً خلف
الكاميرا، وتدع لغيرها – أمها، أخيها، وحتى رجال السلطة الذين كانوا جزءاً من
النظام – أن يسردوا قصتها. هذا الأسلوب يمنح الفيلم مصداقية وعمقاً، ويسمح للجمهور
بالتعايش مع التجربة من خلال عيون متعددة.
- لا تسعى جيهان إلى تجميل الماضي أو تقديم سرديات بطولية خالية من النقد، بل تسعى إلى تفكيكه، من
- خلال مناقشة سرديات البطولة والمبادئ والوطن. إنها تبحث عن الحقيقة في تفاصيل دقيقة، في
- صورة أرشيفية مهزوزة، وتسجيل صوتي مشوش، ومشهد عائلي باهت على شريط قديم. من خلال
- هذه الشظايا، يتحقق نوع من العدالة: عدالة التوثيق. حتى لو لم تُسترجع الحقوق كاملة، فإن سرد
- القصة
بصدق وإخلاص كافٍ أحياناً كي يمنح الحياة معنى جديداً، ويضيء على الظلم الذي مورس.
**"قبل أن يختفي" سد الفراغ واستعادة الهوية**
تختتم جيهان الكيخيا رحلتها الفنية بتأكيد
إحساسها بالإلحاح لسد هذا الفراغ الذي تركه غياب والدها، والذي تعكسه الفوضى وعدم
الاستقرار المستمرين في ليبيا. تخشى جيهان أن تؤدي هذه الفوضى إلى دفن هويتها
الليبية، كما كادت أن تدفن ذاكرة والدها. لذلك، هي تبحث في ذاكرة الآخرين محاولةً
تكوين صورة أوضح عن والدها الذي لا تتذكره، وعن ليبيا التي لم تعشها بسلام.
- ترى جيهان أن إنجاز هذا الفيلم الوثائقي ساعدها على فهم أهمية وجود الأب في حياة الإنسان، وتأثير
- غيابه على الأسرة والمجتمع، بل وحتى على الوطن بأكمله. إن مشاركة قصة والدها غير المروية هي
- مشاركة لقصة ليبيا غير المروية، تلك التي تمتد عبر ما يقارب مئة عام من التاريخ والسياسة الليبية.
- إرث منصور الكيخيا يمنح جيهان نافذة فريدة على جيل والدها، وعلى مسؤولين سابقين في الحكومة
- الليبية وأعضاء في المعارضة، هؤلاء الرجال الذين ينتهزون الفرصة للتأمل بصدق في ليبيا الضائعة
- وفي مستقبلها.
تتمنى جيهان لو كان بإمكانها أن تسأل والدها: "كيف وصلنا إلى ما نحن عليه؟ وكيف ستتحرر ليبيا من هذه الدوامة؟" هذه الأسئلة لا تزال عالقة في أذهان الكثيرين من الليبيين، ويأتي فيلم "بابا والقذافي" ليقدم محاولة صادقة للإجابة عليها، لا من خلال شعارات سياسية، بل من خلال رحلة إنسانية عميقة في دهاليز الذاكرة والهوية.
**الخاتمة**
إن "بابا والقذافي" ليس مجرد فيلم وثائقي عن شخصية سياسية، بل هو مرآة تعكس صراعات أمة بأكملها، ومحاولة لاستعادة ما فُقد من كرامة وذاكرة وهوية. يمثل هذا الفيلم خطوة جريئة نحو العلاج الجمعي، وفرصة لليبيا لتواجه ماضيها المؤلم، وتستلهم من قصص شهدائها طريقاً نحو مستقبل أكثر إشراقاً.
مشاركته في مهرجان البندقية ليست مجرد تكريم فني، بل هي اعتراف عالمي
بأهمية هذه القصة، ونداء للاستماع إلى أصوات أولئك الذين دفعوا ثمناً باهظاً من
أجل الحرية والكرامة.